- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (014)سورة ابراهيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
تسخير الشمس والقمر للإنسان :
أيها الإخوة المؤمنون ؛ وصلنا في الدرس الماضي في سورة إبراهيم إلى قوله تعالى:
والشمس تزيد حرارتها السطحيَّة عن ستة آلاف درجة ، بينما تزيد حرارة نواتها عن عشرين مليون درجة ، لو وُضِعَت الأرض في الشمس لتبخَّرت في ثانيةٍ واحدة ، يقدِّر العلماء عمر الشمس بخمسة آلاف مليون سنة .
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ
هل تستطيع قوَّةٌ على وجه الأرض أن تغيّر مسار الشمس ؟ أو أن تعطِّل شروقها ؟ أو أن تمنع غروبها ؟ أو أن تغيِّر توقيتها ؟ ﴿
تثبيت أشياء وتحريك أشياء لحكمة بالغة من الله عز وجل :
أما معنى قوله تعالى :
الشمس آيةٌ من آيات الله الدالَّة على عظمته :
لكن :
﴿ وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) ﴾
لابدَّ من يومٍ تنتهي وظيفة الشمس ..
﴿ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) ﴾
الإنسان الغافل يستضيء بنور الشمس ، وينعم بدفْئِها ، ولكنَّه لا يعرف الله من خلالها ، إذاً استمتاع الإنسان الغافل بالشمس كاستمتاع البهيمة بالشمس ، ولكنَّ المؤمن إذا نظر إلى الشمس رأى الله من خلالها ، دَلَّته على الله لأن الشمس آيةٌ من آيات الله الدالَّة على عظمته..
﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ
الأقوام السابقة الغافلون عن الله عزَّ وجل عبدوا الشمس ، لماذا عبدوها ؟ لِمَا رأوا من خيراتٍ ناتجةٍ عنها ، لو دقَّقوا ، وتأمَّلوا ، وفكَّروا لانتقلوا منها إلى خالقها ..
﴿ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) ﴾
﴿ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76)﴾
إلى أن قال :
﴿ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79) ﴾
انتقل سيدنا إبراهيم من الشمس إلى الله ، والمؤمن ينتقل من كل شيءٍ إلى الخالق ، لذلك استمتاع المؤمن بالشمس استمتاعٌ بحقيقتها ، واستمتاعٌ بموجِدِها ، أي حينما يتأمَّلها ينتقل منها إلى موجدها فيخشع قلبه ، فإذا خشع قلبه ، وانهمرت دموعه ، وأقبل على الله عزَّ وجل ، عرف أن الشمس كانت دليلاً له إلى الله عزَّ وجل ..
﴿ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ
كل ما في السماء مسخر للإنسان بأمر الله عز وجل :
الآية الثانية :
﴿
الشمس ضياء ، ضوءها شديد ، ضوءها كشَّاف ، لكن القمر كما أن الإنسان أحياناً يرغب إذا أوى إلى فراشه أن يبقى في الغرفة بصيص ضوءٍ يريه معالم الأشياء ، كذلك ربنا سبحانه وتعالى من رحمته بنا
﴿ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ
أي إن هذا السير له حَد ، هذه الشمس وسيلة إيضاح إلى أن يأتي يوم الامتحان تُرفع هذه الوسائل ، ويُمتَحن الإنسان ، ويظهر عمله .
حركة الأرض الحقيقيَّة أو حركة الشمس الظاهرة آية من آيات الله :
شيءٌ آخر :
﴿
هذه آية من آيات الله عزَّ وجل ، تكون جالساً في بستان فترى ظلَّ الشجرة ، هذا الظل يتحرَّك ، قد يكون أصغر من الشجرة بُعَيْدَ الظهر ثم يمتدُّ الظل إلى أن يصبح في طولٍ مثل طول الشجرة ، إلى أن يصبح قدر طولين أي ضعفي طولها ، إلى أن يصبح ممتدَّاً إلى مسافاتٍ بعيدة ، من الذي حرَّك هذا الظّل ؟ حركة الأرض الحقيقيَّة أو حركة الشمس الظاهرة ، هذه آية ، يجب أن تستنبط أنَّ هناك حركة ، هناك شيء يتحرَّك ، الإنسان الساذج ينظر بعينيه ، لكن الإنسان المفكِّر يرى بفكره أشياء لا تراها عينه ، هذه العين لا ترى حركة الأرض ، ولا ترى حركة الشمس ، لكنَّها ترى حركة الظل ، وما دام الظل متحرِّكاً فلابدَّ من حركةٍ ما من قِبَلِ الشمس أو من قِبَلِ الأرض .
بقاء كل شيء في الكون بمساره آية من آيات الله الكبرى :
﴿ لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40) ﴾
أي تنظيم ، الآن لابدَّ للطائرات من قيادةٍ حكيمة في أبراج المطارات ، هذه الطائرة تُعطى الخط الأول ، خط دمشق باريس مثلاً ، هناك خطوط في الجو ، لو أن موظَّفي الأبراج في المطارات أخطؤوا وأعطوا طائرتين خطَّاً واحداً لكانت كارثة مروِّعة ، وهذا ما حدث من قبل ، طائرتان كل طائرة فيها أربعمئة راكب تحطَّمتا ، ومات جميع ركَّابها ، لماذا ؟ لأن موظَّف البرج أعطى طائرتين خطأً خطَّاً واحداً ، لن تستطيع الطائرةٌ أن تُقْلِعَ من المطارٍ إلا بعد أن تأخذ خطاً من برج إقلاعها وبرج وصولها ، هذا الخط تستقلُّ به ، فإذا طارت طائرةٌ أخرى تُعْطَى خطاً آخر أعلى أو أدنى ، كم طائرة موجودة في الأرض ؟! لنفرض أنهم خمسة آلاف طائرة ، أو خمسين ألف طائرة ، كم موظف في كل مطار يعمل على تنظيم حركة هذه الطائرات ؟!
كل مجرَّة فيها مليون مليون نجم ، وفي الكَوْن العدد الأولي التقريبي حتى الآن التقدير مليون مليون مجرَّة ، أي مليون مليون ضرب مليون مليون ، أي اثنا عشر صفراً باثني عشر صفراً ، أي واحد أمامه يوجد أربعة وعشرون صفراً ، كل ثلاثة ألف ، لم يحدث أن ارتطم نجمٌ بنجم ..
﴿
معنى تزول أن تخرج عن خطِّ سيرها ..
﴿ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5) ﴾
هناك حسابٌ دقيق ، قال العلماء : لو أنه حدثت بعض الانفجارات في الشمس ، فارتفعت حرارتها ، وذابت الكتل الجليديَّة في القطبين ، لارتفع البحر إلى مسافة ثلاثةٍ وتسعين متراً فوق مستواه الحالي ، لغَمَرَ ثُلُثَي اليابسة ، لو أن انفجاراً حدث في الشمس أذاب هذا الانفجار الجبال الثلجية في القطبين فذابت فارتفعت مياه البحر ثلاثةً وتسعين متراً فانغمر من الأرض أو من اليابسة ثُلُثاها ، إذاً :
التعرف إلى عظمة الله والاستقامة على أمره عند التفكر في الكون :
الآن بعد الشمس عن القمر ، بعد الأرض عن الشمس ، بعد الأرض عن القمر ، بعد القمر عن الشمس ، هذه كلُّها وَفَق حساباتٍ دقيقةٍ دقيقة ، يقول الله عزَّ وجل في آيةٍ أخرى :
﴿ وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16) ﴾
الشمس مُتَأَلِّقة ، القمر عاكس ،
﴿ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ
من تفكر في الليل والنهار رأى الله من خلالهما :
﴿
يستمتع أهل الدنيا بالنهار المُشْمِس في أيَّام الربيع والخريف ، ينطلقون إلى النُزُهات ، يستمتعون بالليلة القَمْراء ، ينطلقون إلى السَهَرات ، إنهم يستمتعون بالليل والنهار ولو أن الإنسان فكَّر في الليل والنهار لرأى الله من خلالهما ، لذلك :
عن التنوخي النصراني رسول هرقل :
(( سُبْحَانَ اللَّهِ ! أَيْنَ اللَّيْلُ إِذَا جَاءَ النَّهَارُ ؟ ))
وأين النهار إذا جاء الليل ؟ تكون مسافراً ، الشمس مشرقة ، والطريق واضح المعالِم ، وأنت مطمئن ، فإذا جاء الليل بدأت تُبَحْلِقُ في الطريق ، وتتوهَّم أن هذه المركبة قادمةٌ نحوك ، وهذه تبتعد ، والطريق من اليمين ، أين النهار إذا جاء الليل ؟ يقول ربنا عزَّ وجل :
﴿ وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ
اختلاف لها معنيان ، إما أن الليل يَتْبَعُ النهار ، اختلاف الليل والنهار ، وإما تفاوت الليل والنهار في الطول والقِصَر ، من جعل الليل يطول في الشتاء والنهار يطول في الصيف ؟ من جعل اختلاف الليل والنهار ؟ الله سبحانه وتعالى ، قد يستمتع الإنسان في الشتاء بالليل ، يؤذِّن العشاء في وقتٍ مبكِّر ، يأتي الصيف حيث النهار الطويل ، إن كنت في عملك في الصيف ترى أن الوقت ممتد والليل قصير ، وفي الشتاء ترى أن النهار قصير والليل مُمْتَد ، فلذلك :
إيلاج الليل في النهار من أعظم الآيات :
﴿
أَوْلَجَ بمعنى أدخل ، انظر ساعة الغروب كيف أن الليل يأتي من هاهنا ، والنهار يُدْبِر من هاهنا ، إذا نظرت إلى الأفق الغربي ترى أثر ضوء الشمس ، ترى الشفق الأحمر ، فإذا نظرت إلى الأفق الشرقي ترى الظلام ، تنعكس الآية عند الفجر ، إذا نظرت إلى الأفق الشرقي ترى خيطاً أبيض ، فإذا نظرت إلى الأفق الغربي ترى الظلام دامساً ، فربنا عزَّ وجل يقول :
الليل سكون وهدوء :
الفضل لله عزَّ وجل في أنه جعل في الأرض نظاماً موحَّداً ، حينما تغيب الشمس تأوي المخلوقات إلى أوكارها ، والإنسان إلى بيته ، أما أن يسهر الإنسان يمضي هذا الوقت الذي أعَدَّه الله لراحته ، أعدَّه الله لاسترجاع نشاطه ، أعدَّه الله لصحَّته ، يمضي هذا الوقت في حديثٍ فارغ ، وفي علاقاتٍ ساذجة لا قيمة لها هذا مخالفٌ للسنَّة :
﴿ فَالِقُ الْإِصْبَاحِ
قرأت ذات مرَّة مقابلة مع طبيب أستاذ في الجامعة ، أعرف هذا الطبيب ليس فيه أيُّ اتجاهٍ دينيٍّ إطلاقاً ، إلا أنه قال : من عاداته التي يصرُّ عليها النوم باكراً حفاظاً على صحَّته ، ولو أن الإنسان ألْزَمَ نفسه أن ينام باكراً لذاق طعم الحياة ، لأن ..
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم :
(( لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ ما في النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الأوَّلِ ، ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلَّا أَنْ يَسْتَهِمُوا عليه لَاسْتَهَمُوا ، ولو يَعْلَمُونَ ما في التَّهْجِيرِ لَاسْتَبَقُوا إِلَيْهِ ، ولو يَعْلَمُونَ ما في العَتَمَةِ وَالصُّبْحِ لَأَتَوْهُما ولو حَبْوًا. ))
(( عن أبي الدرداء ، وأبي ذر رضي الله عنهما :
﴿ إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6) ﴾
﴿ أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79) ﴾
﴿ وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ
يأتي الليل كالغشاء يُغَشّي الأرض ..
﴿ وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4) ﴾
﴿ هُوَ الَّذِي
اختلاف الليل والنهار واختلاف الفصول من تنظيم الله عز وجل :
ما الذي يجعل الفصول ؟ أن محور الأرض مائلٌ هكذا ، فالشمس تأتي عموديَّةً على نصف الكرة الشمالي فيكون الصيف ، وتأتي مائلةً على نصف الكرة الجنوبي فيكون الشتاء ، فإذا دارت الأرض حول الشمس هكذا جاءت الشمس عموديَّةً على نصف الكرة الجنوبي فكان الصيف ، وجاءت مائلةً على نصف الكرة الشمالي فكان الشتاء ، لولا ميل هذا المحور لما كان صيفٌ ولا شتاء ، ولا ربيعٌ ولا خريف ، لولا دوران الأرض لما كان ليلٌ ولا نهار ، لو دارت على محورٍ أفقيٍّ موازٍ لمستوى دورانها لأُلغي الليل والنهار ، إذا كان المحور مائلاً كان الليل والنهار ، وكان اختلاف الليل والنهار ، وكانت الفصول ، تصميم من ؟ هندسة من ؟ ترتيب من ؟ تنظيم من ؟ الله سبحانه وتعالى .
الحكمة من خلق الليل :
﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) ﴾
لم يقل في نهار القدر ، النهار فيه عمل .
﴿ يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (44) ﴾
حياتنا منوَّعة ؛ فيها ليل ، فيها نهار ، فيها صيف ، فيها شتاء ، فيها ربيع ، فيها خريف .
نعمة النوم نعمةٌ لا يعرفها إلا من فقدها :
﴿
النوم سُبات ، هذا الجهاز العصبي يُسْتَهلك في النهار ، فإذا جاء الليل واستراح ، وتباعدت الخلايا العصبيَّة ، وانقطعت السيَّالة الكهربائيَّة ، نام الإنسان ، يستيقظ وكأنه لم يتعب من قبل ، استعاد كل نشاطه ،
الليل والنهار صُمِّما خصيصاً للإنسان :
﴿
أنت في أثناء النهار في عملك ، بالليل في بيتك ، بالنهار هناك نشاط وبالليل همود ..
﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71)﴾
لو أن الله سبحانه وتعالى أعطى الأمر إلى الأرض أن تقف عن الدوران ، فبقي الليل مستمرَّاً ، ماذا يفعل سكَّان الأرض ؟ لو اجتمعوا واتخذوا قراراً ماذا يفعلون ؟ هل تستطيع أقوى جهةٍ على وجه الأرض أن تأمر الأرض بالحركة ؟
﴿
شيء دقيق جداً ، الأصل هو الظلام ، الفضاء الخارجي مظلمٌ ظلامٌ دامس ، والشمس استثناءٌ من هذه القاعدة .
إذاً :
﴿ وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4) ﴾
الليل يسري ، يتحرَّك ..
﴿ هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) ﴾
ما من ثانيةٍ على وجه الأرض إلا وقد دخل فيها الليل تواً ، أبداً ، ما من ثانية ، الأصحُّ من ذلك أن كل مكانٍ على وجه الأرض له توقيتٌ خاص للشروق والغروب ، ما دامت الأرض كرةً والشمس من هاهنا والأرض تدور إذاً النهار تدريجي والليل تدريجي ، ربنا عزَّ وجل قال :
سؤال الله عز وجل بلسان المقال أو الحال أو الاستعداد :
شيءٌ آخر ؛ هذا السؤال يا تُرى بلسان الحال أم بلسان القال ؟ الإنسان أحياناً يسأل الله عزَّ وجل مثلاً : يا رب ارزقني مثلاً عملاً صالحاً أتقرَّب به إليك ، يا رب ارزقني زوجةً صالحة تُعينني على أمر ديني ، دعاء ، يا رب ارزقني بيتاً آوي إليه ، ارزقني ولداً ينفع الناس من بعدي ، ارزقني مالاً حلالاً أتقوَّى به على طاعتك ، هذا سؤال ، لكن الإنسان أحياناً لا يسأل ، فإذا ربنا سبحانه وتعالى ييسِّر له حاجاته ، هو محتاج إلى شيء يقيه البرد ، خلق له الصوف ، مهما كان البرد شديداً ترتدي هذا اللباس الصوفي فتحس بالدفء ، جسمك يسأل الله عزَّ وجل بلسان الحال لا بلسان المقال ، يأتي الصيف تشعر بالحر تشتهي فاكهةً مفعمةً بالماء ، يأتي البطيخ ، يأتي الشتاء تشتهي الدفء ، خلق الله لك الوقود ، الحَطَب ، أو الوقود السائل ، حينما تدخل غرفةً تشتعل فيها المدفأة وكنت في بردٍ شديد تُحِسُّ بالنعيم وتقول : والله النار فاكهة الشتاء ، هذا الجسد يحتاج إلى الدفء خلق الله له ما يسدُّ هذه الحاجة ، قد يحتاج الرجل إلى إنسانٍ يسكن إليه
شيءٌ آخر ؛ قال بعض المفسِّرين : وآتاكم من كل ما سألتموه بلسان الاستعداد .
أحياناً يكون لدى الإنسان إمكانيَّات عالية يجد شيئاً يسدُّ هذه الإمكانات ، أحياناً يتوقُ إلى المعرفة يجد من العلوم ما يسدُّ هذه الحاجة ، إما بلسان القال ، أو بلسان الحال ، أو بلسان الاستعداد ، أحياناً يوجد عند مخترع شوق إلى أن يخترع شيئاً ، فالله سبحانه وتعالى يلهمه الاختراع ، لذلك الشيء الثابت أن كل المخترعات الحديثة التي كشفها الإنسان إنما هي في الحقيقة إلهامٌ من الله عزَّ وجل ، لأن هذا المخترع عنده استعداد ، فجاء الله سبحانه وتعالى وآتاه سؤلَهُ .
سُئل أحد المخترعين واسمه أديسون عن الاختراع فقال : الاختراع تسعٌ وتسعون بالمئة عرق ، بذل جهد ، وواحد في المئة إلهام ، أي الله سبحانه وتعالى ألهم المخترعين فكرة الطائرة ، وفكرة أي جهازٍ يخترعونه ، والدليل قوله تعالى :
﴿ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8) ﴾
ألهم الفكرة ، وخلق المواد ، وخلق الوقود ، إذاً تُعْزَى إليه ، إذاً إنك تسأله بلسان المقال ، أو تسأله بلسان الحال ، أو تسأله بلسان الاستعداد .
مثلاً : لو أن الطالب صدق في حلِّ مسألة عويصة في الرياضيّات لألهمه الله حلَّها ، كأنني أنتقل بهذا الموضوع إلى موضوع الاختيار ، أي حينما خلق الله الإنسان على وجه الأرض تَعَهَّد الله عزَّ وجل أن يؤتيه سؤلَهُ ، لو أن إنساناً طلب من الله أن يطير في الأجواء ألهمه وسائل هذا الطيران ، لو أنه طلب أن يغوص في أعماق البحار آتاه سؤله ، لو أنه طلب أن ينقُل صورةً من قارَّةٍ إلى قارَّة ألهمه سؤله ، فأي شيءٍ تقع عليه عينك في هذه الأرض إنما هو إلهامٌ من الله عزَّ وجل ، ولكن بحسب الطلب ، ليس بحسب الطلب غير الصادق بل بحسب الطلب الصادق ، أي اصدق في أي شيء تنله ، هذا ملخَّص الملخَّص ، أيّ شيءٍ إذا صدقت فيه يجب أن تناله ..
طفل في قرية من القرى النائية ، صار في مستقبل أيَّامه رئيساً للجامعة ، انتقل مشياً من قريته إلى أقرب مدينة ، عمل في مدرسةٍ بطعامه فقط كي يصبح فيها مدرِّساً ، تقلَّب من مدرسة إلى مدرسة إلى أن نال أعلى الشهادات وصار رئيساً للجامعة ، لماذا صار كذلك ؟ لأنه طلب من الله ذلك .
الصدق في الطلب :
﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19) كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20) ﴾
أقول لكم : اصدقوا في طلب أي شيء لابدَّ من أن يحقَّق لكم ، أما الشيء الذي لم تصل إليه لست صادقاً في طلبه ، الشيء الذي وصلت إليه أنت صادقٌ في طلبه ، والذي لم تصل إليه لست صادقاً في طلبه ،
إذاً اطلب من الله ما شئت ، ولابدَّ إن كنت صادقاً في طلبك من أن يحقِّق الله طلبك ، لكنك إذا كنت عاقلاً فاسأله نعيماً مقيماً ، اسأله الدار الآخرة ، اسأله شيئاً لا ينتهي بالموت ، أي شيءٍ في الدنيا ينتهي بالموت إلا معرفة الله عزَّ وجل ، لذلك لم يسمّ الله سبحانه وتعالى الدنيا عطاءً ، إنها أحقر من ذلك ..
عن سهل بن سعد الساعدي :
(( لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاء. ))
عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( مَرَّ بِالسُّوقِ دَاخِلًا مِنْ بَعْضِ الْعَالِيَةِ ، وَالنَّاسُ كَنَفَتَهُ ، فَمَرَّ بِجَدْيٍ أَسَكَّ مَيِّتٍ فَتَنَاوَلَهُ ، فَأَخَذَ بِأُذُنِهِ ، ثُمَّ قَالَ : أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنَّ هَذَا لَهُ بِدِرْهَمٍ ؟ فَقَالُوا : مَا نُحِبُّ أَنَّهُ لَنَا بِشَيْءٍ ، وَمَا نَصْنَعُ بِهِ ؟ قَالَ : أَتُحِبُّونَ أَنَّهُ لَكُمْ ؟ قَالُوا : وَاللَّهِ لَوْ كَانَ حَيًّا كَانَ عَيْبًا فِيهِ ، لِأَنَّهُ أَسَكُّ ، فَكَيْفَ وَهُوَ مَيِّتٌ ؟ فَقَالَ : فَوَ اللَّهِ لَلدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ هَذَا عَلَيْكُمْ . ))
اسأله ما شئت ، أي شيءٍ تسأله إيَّاه في صدقٍ يحقِّقه لك ، قول واحد ، ولكن إن كنت عاقلاً اسأله ما لا يفنى ، إذا سألته ما يفنى فقد استهلكت هذا العطاء الكبير في أمدٍ يسير ، لكنك إذا سألته ما يبقى سعدت بهذا العطاء إلى الأبد .
نعم الله عز وجل لا تحصى :
شيءٌ آخر ؛
شيءٌ آخر في الآية ، إن كنتم لن تستطيعوا إحصاءها فهل تستطيعون شكرها ؟ أنتم عاجزون عن إحصائها فما بالكم في شكرها ؟! أنتم عاجزون عن إحصائها فقط لا النعم كلها ، نعمة واحدة ، يعجز البشر جميعاً مجتمعين ومتفرِّقين عن إحصاء خيرات نعمةً واحدة ، فكيف بكل الخيرات ؟ وكيف بالشُكر ؟ أي نحن عاجزون عن إحصاء خيرات نعمة واحدة .. مثلاً المثانة ، لو لم تكن المثانة لكانت حالة الإنسان صعبةً جداً ، لو كانت ولم تكن مزوَّدةً بالعضلات لكانت حالة الإنسان صعبةً جداً ، نعمة طَرْحِ الفضلات ، نعمة أن الرئتين تعملان وحدهما بتقدير عزيزٍ عليم ، لو أن الله عزَّ وجل أوْكَل هذا العمل لك لما وُجِدَ النوم أبداً ، تنام فتموت ، نعمة ضربات القلب ليست إراديَّة ، وإلا ما بقي أحد حياً ، يقف قلبه لأي سبب فيموت ، القلب لا يأتمر بأمرك ، هذه نعمة ، أي أن نعمة الله لا تحصى ..
ظلمُ النفس أشدُّ أنواع الظلم :
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين